في حادثة صححّها الوادعي في كتابه (الصّحيح المسند)، قَدِم عمُّ الفرزدق، صعصعة بن معاوية، إلى المدينة، وكان مشركًا يرغب في التّعرف إلى الإسلام، فسمع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقرأ هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
فقال: "لاَ أُبَالِي أَنْ لاَ أَسْمَعَ غَيْرَ هَذَا. حَسْبِي، حَسْبِي". وأعلن إسلامه.
وفي حديث صحيح، أخرجه الألباني في السّلسلة الصّحيحة، قال حذيفة بن اليمان في حديث طويل: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشّرّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي".
وفي قول صحّحه البخاري في الجامع الصّحيح عن حذيفة بن اليمان أنّه قال: "تَعَلَّمَ أَصْحَابِي الْخَيْرَ، وَتَعَلَّمْتُ الشّرّ"..
وقال عمر بن الخطاب: "لاَ يَعْرِفُ الإِسْلاَمَ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ"، أو: "مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ لاَ يَعْرِفُ الإِسْلاَمَ".
وفي حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشّرّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ".
الحديث عن الشّرّ والخير في اعتقادي من أهمّ المواضيع التي تستدعي الدّراسة والتأمّل العميق؛ لأنّ امتحان الحياة الدّنيا مداره على مفهوم الخير والشّرّ.
وسأركّز حديثي حول أربع نقاط.
1- تعريف الخير والشّرّ:
ماذا نقصد بالخير والشّرّ؟ توجد تعريفات مختلفة.
فمنهم من يقول: "إنّ الخير: هو الخلوّ من الشّرّ".
ويقول آخر: "الخير: هو الابتعاد عن الشّرّ".
ويقول ثالث: "الخير: هو العجز عن الشّرّ".
ويقول رابع: "الخير: هو مخالفة الشّرّ".
خلاصة هذه التّعاريف الأربعة أنّها تعتبر الخير مجرّد امتناع عن شيء آخر.
والحقيقة أنّ هذه التّعاريف الأربعة تعطينا جزءًا من التّعريف، ولكنّها غير كافية لتصوّر مفهوم الخير.
وقد بحثت كثيرًا في هذا المسألة، ووجدت تعريفًا جيدًا للخير والشّرّ، ذكره بعض العلماء، منهم عباس محمود العقاد في كتابه بعنوان "إبليس". قال: "الْخَيْرُ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْحُسْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُبْحِ"، و"فِعْلُ الْحَسَنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَبِيحِ"، و"إِرَادَةُ الْحُسْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُبْحِ" و"الدَّافِعُ عَلَى الْحُسْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُبْحِ".. فالأمر متعلّق بالفعل الحسن، والقدرة على الفعل الحسن، وإرادة الفعل الحسن.
وقد تأمّلت في تعريف العقاد، وبحثت عن مصداق له في القرآن والسّنة، فوجدته في حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة، وتجدونه أيضًا في الأربعين النّوويّة: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ. وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ".
هذا هو تعريف الخير في سلوك الإنسان: "إِرَادَةُ الْحَسَنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَبِيحِ، وَفِعْلُ الْحَسَنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَبِيحِ".
أمّا الشّرّ فأفضل تعريف وجدته هو تعريف عالم النّفس الأمريكيّ (سْكُوتْ بِكْ) حيث يقول: "الشّرّ هو أن يستخدم شخص السّلطة والنّفوذ والقوّة لتدمير النّموّ الرّوحيّ للآخرين، بهدف الدّفاع أو الحفاظ على السّمعة والمكانة في أنانيّة مريضة".
2- التّمييز بين الخير والشّرّ:
ولكن، هل نستطيع دائمًا التّمييز بسهولة بين ما هو خير وما هو شرّ؟
في كثير من الأحيان، نستطيع التّمييز بسهولة بين ما هو خير وما هو شرّ، على الأقل نظريًّا. ولكن قد يلتبس علينا الأمر في أحيان أخرى، فنرى الشّيء أو نفعل الشّيء ونظنّ أن فيه خيرًا، في حين أنّه يستبطن شرًّا، والعكس كذلك.
يقول الله عز وجل في سورة [البقرة:216]: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وفي سورة [النور:11]: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
وفي سورة [النساء:19]: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).
وفي سورة [آل عمران: :180]: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ).
إذن في بعض الأحيان، قد يلتبس علينا الأمر، فلا نميّز إن كنّا نفعل خيرًا أو نفعل شرًّا، ولا نميّز إن كان ما حصل لنا فيه شرّ أو فيه خير. وهذا الأمر داخل في حكمة الله وإرادته؛ لأنّه جزء من الابتلاء وجزء من امتحان الحياة.
يقول الله في سورة [الأنبياء:35]: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
وفي حديث صحيح رواه البغويّ، عن بلال بن الحارث المزنيّ أنّه سمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشّرّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ".
3- أصول الشّرّ:
المسألة الثّالثة التي أودّ الإشارة إليها، تتعلّق ببعض الأمور التي يمكن القول إنّها أصول الشّرّ في سلوك الإنسان. ومن هذه الأمور: الغضب، والحسد، والكبر، والكذب.
فالغضب مفتاح كلّ شرّ؛ لأنّه يؤدّي إلى إيذاء النّاس وظلمهم والعدوان عليهم، والتّهكّم عليهم والسّخريّة منهم..
روى البخاري في صحيحه عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رَجُلاً قال لِلنَّبِّي صلّى الله عليه وسلّم: أَوْصِني (أي: دُلَّني على عمل ينفعني). قالَ: "لاَ تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرارًا، قال: "لا تَغْضَبْ". وقيل إنّ الرّجل هو أبو الدرداء، وقيل جاريةُ بن قُدَامة.
وفي زيادة صحّحها الألبانيّ أنّ هذا الرّجل قال: "فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَالَهُ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشّرّ كُلَّهُ".
وفي حديث رواه ابن ماجه سُئل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن أفضل النّاس، فقال: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ". قالوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قال: "التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ".
وفي قصّة عبد الله بن عمرو مع ذلك الرّجل الذي قال عنه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". فعاشره عبد الله ثلاث ليال، يبيت عنده، فلم يجده كثير التّطوّع بالصّلاة أو الصّيام فسأله عن حاله، فقال الرّجل: "مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ. غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلاَ أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ".
فقال عبد الله بن عمرو: "هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ" (رواه أحمد).
إذن، فالغضب والحسد والكبر والكذب هي أصول الشّرّ. ومن طلب السّلامة في الدّنيا والآخرة، فإنّه يتوجّب عليه اجتنابها في حياته اليوميّة، والتّواصي مع الآخرين باجتنابها، في الأسرة ومع الجوار والأصدقاء والخلاّن وزملاء العمل، وفي سائر العلاقات الاجتماعيّة.
4- أهمّيّة القدوة:
وهذا ما يصل بي إلى النقطة الرّابعة التي أرجو التّنبّه إليها، وتتعلّق بأهمّيّة القدوة في تعاملنا مع الآخرين: مع الطّفل، ومع الزّوج أو الزّوجة، ومع الصّديق والأخ.
فكثيرًا ما ننهى الآخرين عن ارتكاب الشّرّ، أو ندعوهم بالكلام إلى اجتناب الشّرّ في سلوكيّاتهم، ولكنّنا نغفل عن أنّنا ربّما ساهمنا في زرع بذور الشّرّ فيهم من حيث لا نشعر. كيف ذلك؟ كيف يمكنني أن أزرع الشّرّ في طفلي أو زوجتي أو زوجي، أو أخي أو صديقي؟ وهل يمكن ذلك؟
الجواب: نعم، يمكن لأحدنا أن يزرع الشّرّ في نفس من هم أقرب النّاس إليه:
- حين يكون سلوكه متناقضًا..
- حين يرسل رسائل سلوكيّة متناقضة..
- حين يقول ما لا يفعل..
- حين يأمر بشيء، ويفعل عكسه..
- حين ينهى عن الشّيء ويأتيه..
- حين ينهى الأب ابنه أو تنهى الأم ابنها عن الغضب، ثم يرى ماذا يفعلان في لحظات الغضب..
- حين ننهاه عن ضرب الآخرين، ثم نضربه..
- حين ننهاه عن الكذب ثم نكذب.. الخ.
فالقدوة السّلوكيّة هامّة جدًا في تربية الأطفال، وكذلك في تهذيب سلوك الكبار..
والإنسان الذي يدفع الآخر إلى ردّ فعل سيّئ إنّما يرتكب نوعًا من الشّرّ..
وحين ندفع الطّفل أو الزّوجة أو أيّ شخص آخر إلى الكذب خوفًا أو طمعًا، فنحن في الحقيقة نرتكب شرًّا أكبر من كذبه..
وحين نستفزّه وندفعه للغضب بدون مسوّغ فإنّنا مسؤولون عن بذرة الشّرّ التي أدّت به إلى الغضب..
وحين لا نعامله بإنصاف فإنّنا مسؤولون؛ لأنّنا نزرع فيه الشّعور بالظّلم، وندفعه إلى إيقاع هذا الظّلم على الآخرين..
وحين نعامله بالقسوة والانتقاد والتّأنيب، فإنّما نعلّمه العناد والتّنديد والشّعور المفرط بالذّنب..
وحين لا نشجّعه على أعماله الإيجابيّة، فإنّنا نؤدّي به إلى الشّعور بفقدان الثّقة بالنّفس..
وحين نعامله بسخرية فإنّما نعلّمه الانطواء..
وحين نعامله بعداوة فإنّما نعلّمه الكراهية والحقد..
كلّ هذه الممارسات هي من الشّرّ غير الظّاهر؛ لأنّها تزرع في الآخرين بذور الشّرّ، ويمكن أن تحصل في كلّ أنواع العلاقات الاجتماعيّة: بين الكبير والصغير، بين الرّجل والمرأة، بين الحاكم بالمحكوم، بين الأستاذ والتّلميذ، بين الجماعة والفرد.
وأختم بحديثين.. أوّلهما عن أنس بن مالك، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَمِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ. فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ مِفْتَاحَ الشّرّ عَلَى يَدَيْهِ". (حديث حسن، أخرجه الألباني في كتاب السنة).
والحديث الثّاني، عن أبي الدرداء وأبي هريرة، قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ. وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشّرّ يُوقَهُ". (حديث صحّحه الألباني).
| |
Next
« Prev Post
« Prev Post
Previous
Next Post »
Next Post »
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)

ConversionConversion EmoticonEmoticon